صعود الميليشياوية في إسرائيل- تقويض الدولة وتفكيك الجيش

المؤلف: د. مهند مصطفى10.16.2025
صعود الميليشياوية في إسرائيل- تقويض الدولة وتفكيك الجيش

في السنوات الأخيرة، تشهد إسرائيل تصاعدًا ملحوظًا في الاقتحامات والاعتداءات التي تنفذها جماعات شبه عسكرية داخل الجيش وخارجه. هذه التوغلات ما هي إلا تجسيد لظاهرة أعمق وأشمل في المشهد الإسرائيلي، يمكن وصفها بـ "صعود النزعة الميليشياوية"، كثقافة وسلوك، سواء داخل المؤسسة العسكرية أو خارجها. وما يزيد الطين بلة، أنها تتغذى من مصادر متعددة داخل وخارج الجيش.

النزعة الميليشياوية هنا تعني تقويض التسلسل الهرمي والتنظيمي في الجيش، وتغيير منابع الشرعية وسلطة الجنود، وهو أمر يتقاطع بشكل خطير مع النزعة السائدة خارج الجيش، والتي تتجلى في كسر قواعد اللعبة السياسية والأعراف المجتمعية، وغياب المساءلة عن السلوكيات الميليشياوية الجماعية التي تحظى بدعم من السلطة السياسية الرسمية، وحتى من سلطات غير رسمية.

تجدر الإشارة إلى أن دولة إسرائيل قامت أساسًا على نزع الطابع والثقافة الميليشياوية عن مجتمع المستوطنين اليهود في فلسطين، خاصةً النزعة والتنظيم الميليشياوي العسكري المرتبطين بتيارات سياسية وأيديولوجية مختلفة داخل المجتمع الاستيطاني.

لقد اضطر مؤسسو الدولة إلى تجريد المستوطنين اليهود من صفتهم الميليشياوية من خلال تبني مفهوم "الدَوْلَتِيَّة" (المملختيوت بالعبرية)، وتفكيك الميليشيات العسكرية المتعددة لصالح بناء جيش موحد يجمع أفراد الميليشيات الصهيونية العسكرية المتناثرة في إطار جيش حديث ذي تسلسل هرمي واضح ومصدر سلطة وشرعية واحد لا يقبل القسمة.

لقد فرض بن غوريون هذه الرؤية بقوة وحزم، تجلى ذلك بوضوح في حادثة قصف سفينة "ألتالينا" في يونيو/حزيران 1948، والتي كانت تحمل شحنة أسلحة لمنظمة "الإيتسل" العسكرية، مما أسفر عن مقتل 19 شخصًا، بينهم 3 من قوات الجيش و16 من قوات الإيتسل نفسها.

في ضوء هذه الخلفية التاريخية، يمكن فهم الأحداث التي أدت إلى اقتحام سجن "سدي تيمان" وقاعدة المحكمة العسكرية، على أنها نتيجة تراكمات خطيرة أسهمت في تآكل مفهوم "الدولتية" من جهة، وتغلغل النزعة الميليشياوية في صفوف الجيش الإسرائيلي من جهة أخرى. لقد برزت علاقة عكسية جلية بين هذين الاتجاهين المتناقضين.

ظهرت ملامح النزعة الميليشياوية بشكل واضح في تغلغل المشروع الاستيطاني وثقافته من الضفة الغربية المحتلة إلى داخل إسرائيل. وقد عمد إلى تغذية هذه الظاهرة سياسيون وناشطون ورجال دين يقيمون في المستوطنات وخارجها. تدل هذه الظاهرة المقلقة على سطوة المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، وتأثيره المتزايد على ثقافة المجتمع والدولة في السنوات الأخيرة.

ويكفي التذكير بأبرز مظاهر هذه النزعة، والتي تمثلت في تنظيم ميليشيات يهودية متطرفة خلال أحداث "هبة الكرامة" في عام 2021، بهدف ملاحقة وقمع الفلسطينيين في المدن الساحلية المختلطة، وتحديدًا في مدينتي اللد وعكا. تجندت هذه الميليشيات وأرهبت الفلسطينيين دون أن تتخذ سلطات إنفاذ القانون، وعلى رأسها الشرطة، أي إجراءات رادعة ضدها.

لقد تمادى النشاط الميليشياوي في الضفة الغربية المحتلة بدعم سياسي حكومي وصمت مطبق من الجيش، بل ويمكن القول تحت حمايته الكاملة، في ممارسة عمليات إرهابية ممنهجة ضد الفلسطينيين العزل، مثل حرق منازلهم والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم وأراضيهم، وصولًا إلى قتل بعضهم بدم بارد. وبلغ الأمر ذروته في الهجوم الجماعي المنظم على بلدة حوارة الفلسطينية، بدعم سياسي وعسكري لافت للعيان.

واستمرت هذه الظاهرة الميليشياوية المقيتة خلال الحرب الأخيرة على غزة، حيث قامت مجموعات متطرفة بحرق شاحنات الإغاثة الإنسانية التي كانت في طريقها من الضفة الغربية إلى قطاع غزة المحاصر، وإغلاق معبر أبو سالم الحيوي، بهدف منع دخول الشاحنات، دون اتخاذ أي خطوات جادة للمحاسبة والعقاب ضد هذه الجماعات الخارجة عن القانون.

كشفت أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن ضعف الدولة الإسرائيلية وتآكلها من الداخل، وذلك من خلال ضعف مفهوم "الدولتية". لقد لعب اليمين الإسرائيلي المتطرف على مدار العقدين الماضيين دورًا محوريًا في إضعاف مؤسسات الدولة، بهدف إخضاعها لتكون مجرد أداة طيعة في يد مشروعه الاستيطاني التوسعي في الضفة الغربية المحتلة من جهة، وتابعة لهذا المشروع بشكل كامل من جهة أخرى، وللهيمنة عليها من خلال إضعاف مؤسساتها وتفكيك نخبها القديمة، أو ما يمكن تسميته بـ "الدولة العميقة".

لقد جمع هذا الأسلوب الخبيث بين الخطاب اليميني الشعبوي الذي يلامس مشاعر الجماهير، وإحداث ردة فعل عكسية ضد التحولات الليبرالية التي مرت بها الدولة ومؤسساتها في عقد التسعينيات، نحو إعادة تعريف الدولة كدولة يهودية خالصة تتماشى مع التعريف الصهيوني الديني، وهو ما تجسد بوضوح في تشريع قانون أساس "دولة إسرائيل كدولة الشعب اليهودي" عام 2018، المعروف بقانون القومية المثير للجدل.

ظهر ضعف الدولتية أيضًا في ذلك التواطؤ الفاضح مع الحالة الميليشياوية الاجتماعية اليمينية، خاصة عندما يتعلق الأمر باستهداف الفلسطينيين. وفي آخر تجلياته، برز في التسامح السياسي غير المبرر مع اقتحام مجموعات منظمة لسجن "سدي تيمان" وقاعدة "عوفر" العسكرية. إذ حظي هؤلاء المقتحمون بدعم سياسي علني ونجوا من المساءلة والعقاب، وفي حالات أخرى يحظون كذلك بالحراسة والدعم الكاملين، كما حدث تمامًا مع الميليشيات المنظمة التي اعتدت بوحشية على الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وفي الضفة الغربية المحتلة.

ظهر كذلك تواطؤ الجيش الإسرائيلي مع ظهور النزعة الميليشياوية المتفشية فيه، بل وحظوة جزء منها بدعمه السخي، على غرار تأسيس وحدات عسكرية متجانسة أيديولوجيًا مثل وحدة "نيتسح يهودا"، وفي إدخال حاخامات "الصهيونية الدينية" المتطرفين إلى الجيش، وكل منظومة المدارس الدينية العسكرية التي تخرج جنودًا متدينين قوميين للجيش يعتبرون أن الحاخام هو السلطة العليا المطلقة، ويتعاملون مع الجيش على أنه مجرد أداة لخدمة المشروع الاستيطاني التوسعي. ويمكن تعداد المئات من الحالات التي تثبت بما لا يدع مجالاً للشك تفشي الحالة الميليشياوية في الجيش على مستوى الأفراد والوحدات أو المجموعات، وليس هنا المجال المناسب للتفصيل والإسهاب فيها.

ويمكن تفسير ما حدث في "سدي تيمان" على أنه تمرد سافر لجنود في الجيش ضد أوامر عسكرية واضحة، وطلبهم الحماية من "شعب إسرائيل"، وسرعان ما تجمعت لنصرتهم حشود غفيرة مدعومة من وزراء وسياسيين نافذين حاولوا إخراج أولئك الجنود بالقوة من قاعدة عوفر العسكرية، فيما وقفت الدولة عاجزة تمامًا عن صدهم ومحاسبتهم على فعلتهم الشنيعة.

يهدف اليمين الإسرائيلي المتطرف من مشروعه الخبيث في إضعاف الدولة ومؤسساتها وفي تعميق النزعة الميليشياوية في الجيش الإسرائيلي إلى منع تفكيك المشروع الاستيطاني التوسعي في الضفة الغربية المحتلة أو حتى جزء ضئيل منه، كما حدث في الانسحاب من قطاع غزة عام 2005، وهو الحدث الذي شكل صدمة كبيرة لليمين آنذاك، وقرر بعدها تنفيذ مشروعه الشيطاني في الهيمنة الكاملة على الدولة ومؤسساتها.

تمت هذه العملية بشكل تدريجي ومتراكم، ووصلت إلى ذروتها في مشروع التغييرات الدستورية الجذرية عام 2023، التي تواكبت مع نزع صفة "القدسية" عن الجيش الإسرائيلي والتهجم عليه بضراوة كلما تعارضت ممارساته مع مصالح المشروع الاستعماري حتى ولو شكليًا، وهناك كذلك "أدلجة" مستمرة لجهاز الشرطة الإسرائيلية بما يخدم أجندات اليمين المتطرف وأهدافه الخبيثة.

لقد أدرك بن غوريون بحنكته ودهائه أن قوة المشروع الصهيوني تكمن في تعزيز الصفة الدولتية على الحقل السياسي الإسرائيلي وإلغاء النزعة الميليشياوية المتجذرة في الجيش الإسرائيلي، الذي لعب دورًا اجتماعيًا بالغ الأهمية في بناء "أمة إسرائيل الواحدة" من المهاجرين القادمين من شتى بقاع الأرض. ولكن ما يحدث هناك منذ عقود طويلة، وعمقته الحرب الأخيرة في قطاع غزة وكشفته بجلاء، هو تحلل ذلك التوجه "الدولتي" لصالح تغلغل النزعة الميليشياوية بين الأفراد والضباط والوحدات العسكرية، وهو ما يمثل أكبر تهديد وجودي حقيقي يواجه دولة إسرائيل في الوقت الراهن.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة